فصل: تفسير الآيات رقم (32- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة الزمر

مكية إلا قوله‏:‏ قل يا عبادي الآية وآيها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏2‏)‏ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ‏(‏3‏)‏ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏4‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏5‏)‏ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ وهو على الأول صلة ل ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏، أو خبر ثان أو حال عمل فيها الإِشارة أو ال ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏، والظاهر أن ‏{‏الكتاب‏}‏ على الأول السورة وعلى الثاني القرآن، وقرئ «تَنزِيلَ» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم‏.‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق‏}‏ ملتبساً بالحق أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله‏.‏ ‏{‏فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين‏}‏ ممحصاً له الدين من الشرك والرياء، وقرئ برفع ا«‏;‏لدين» عن الاستئناف لتعليل الأمر وتقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكداً وإجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه وظهور براهينه فقال‏:‏

‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏ أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر‏.‏ ‏{‏والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء‏}‏ يحتمل المتخذين من الكفرة والمتخذين من الملائكة وعيسى والأصنام على حذف الراجع وإضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم، وهو مبتدأ خبره على الأول‏.‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ بإضمار القول‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ وهو متعين على الثاني، وعلى هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالاً أو بدلاً من الصلة و‏{‏زلفى‏}‏ مصدر أو حال، وقرئ «قالوا ما نعبدهم» و«ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و‏{‏نَعْبُدُهُمْ‏}‏ بضم النون اتباعاً‏.‏ ‏{‏فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الدين بإدخال المحق الجنة والمبطل النار والضمير للكفرة ومقابليهم، وقيل لهم ولمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونها‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى‏}‏ لا يوفق للاهتداء إلى الحق‏.‏ ‏{‏مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ‏}‏ فإنهما فاقدا البصيرة‏.‏

‏{‏لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً‏}‏ كما زعموا‏.‏ ‏{‏لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ إذ لا موجود سواه إلا هو مخلوقه لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين ووجوب استناد ما عدا الواجب إليه، ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الوالد له ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه هُوَ الله الواحد القهار‏}‏ فإن الألوهية الحقيقية تتبع الوجوب المستلزم للواحدة الذاتية، وهي تنافي المماثلة فضلاً عن التوالد لأن كل واحد من المثلين مركب من الحقيقة المشتركة، والتعين المخصوص والقهارية المطلقة تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد، ثم استدل على ذلك بقوله‏:‏

‏{‏خَلَقَ السموات والأرض بالحق يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل‏}‏ يغشى كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه لف اللباس باللابس، أو يغيبه به كما يغيب الملفوف باللفافة، أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة‏.‏

‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو منتهى دوره أو منقطع حركته‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ العزيز‏}‏ القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء‏.‏ ‏{‏الغفار‏}‏ حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة‏.‏

‏{‏خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ استدلال آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوء به من خلق الإِنسان لأنه أقرب وأكثر دلالة وأعجب، وفيه على ما ذكره ثلاث دلالات‏:‏ خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما‏.‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للعطف على محذوف هو صفة ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ مثل خلقها أو على معنى واحدة أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها فشفعها بها، أو على ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ لتفاوت ما بين الآيتين، فإن الأولى عادة مستمرة دون الثانية‏.‏ وقيل أخرج من ظهره ذريته كالذر ثم خلق منها حواء‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ‏}‏ وقضى أو قسم لكم، فإن قضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتبت في اللوح المحفوظ، أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار‏.‏ ‏{‏مّنَ الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ذكر وأنثى من الإِبل والبقر والضأن والمعز‏.‏ ‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة، غير أنه غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون‏.‏ ‏{‏خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏ حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف‏.‏ ‏{‏فِى ظلمات ثلاث‏}‏ ظلمة البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ الذي هذه أفعاله‏.‏ ‏{‏الله رَبُّكُمُ‏}‏ هو المستحق لعبادتكم والمالك‏.‏ ‏{‏لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ إذ لا يشاركه في الخلق غيره‏.‏ ‏{‏فأنى تُصْرَفُونَ‏}‏ يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك‏.‏

‏{‏إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ‏}‏ عن إِيمانكم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر‏}‏ لاستضرارهم به رحمة عليهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ لأنه سبب فلا حكم، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي بإشباع ضمة الهاء لأنها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرك، وعن أبي عمرو ويعقوب إسكانها وهو لغة فيها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بالمحاسبة والمجازاة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ‏}‏ لزوال ما ينازع العقل في الدلالة على أن مبدأ الكل منه‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ‏}‏ أعطاه من الخول وهو التعهد، أو الخول وهو الافتخار‏.‏ ‏{‏نِعْمَةً مّنْهُ‏}‏ من الله‏.‏ ‏{‏نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ‏}‏ أي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ربه الذي كان يتضرع إليه و‏{‏مَا‏}‏؛ مثل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى‏}‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل النعمة‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، والضلال والإِضلال لما كانا نتيجة جعله صح تعليله بهما وإن لم يكونا غرضين‏.‏ ‏{‏قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً‏}‏ أمر تهديد فيه إشعار بأن الكفر نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار‏}‏ على سبيل الاستئناف للمبالغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 18‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ‏}‏ قائم بوظائف الطاعات‏.‏ ‏{‏أَنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏ ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير «أم من هو قانت»، أو منقطعة والمعنى بل ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ‏}‏ كمن هو بضده، وقرأ الحجازيان وحمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أنداداً‏.‏ ‏{‏ساجدا وَقَائِماً‏}‏ حالان من ضمير ‏{‏قَانِتٌ‏}‏، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين ‏{‏يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ‏}‏ في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل‏.‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم‏.‏ وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ بأمثال هذه البيانات، وقرئ «يذكر» بالإِدغام‏.‏

‏{‏قُلْ يا عِبَادِي الذين ءَامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ‏}‏ بلزوم طاعته‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ‏}‏ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة‏.‏ وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية، وفي هذه بيان لمكان ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ‏}‏ فمن تعسر عليه التوفر على الإِحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون‏}‏ على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها‏.‏ ‏{‏أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ أجراً لا يهتدي إليه حساب الحساب، وفي الحديث إنه ‏"‏ ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ‏"‏ ‏{‏قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين‏}‏ موحداً له‏.‏

‏{‏وَأُمِرْتُ لأِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين‏}‏ وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة، لأن قصب السبق في الدين بالإِخلاص أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من قريش ومن دان بدينهم، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة، والإشعار بأن العبادة المقرونة بالإِخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها فهي أيضاً تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمر بالتقدم في الإِخلاص والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به‏.‏

‏{‏قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى‏}‏ بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء‏.‏ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ لعظمة ما فيه‏.‏

‏{‏قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى‏}‏ أمر بالإِخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصاً له دينه بعد الأمر بالإِخبار عن كونه مأموراً بالعبادة والإِخلاص خائفاً عن المخالفة من العقاب قطعاً لأطماعهم، ولذلك رتب عليه قوله‏:‏

‏{‏فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ‏}‏ تهديداً وخذلاناً لهم‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الخاسرين‏}‏ الكاملين في الخسران‏.‏ ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ بالضلال‏.‏ ‏{‏وَأَهْلِيهِمْ‏}‏ بالإِضلال‏.‏ ‏{‏يَوْمَ القيامة‏}‏ حين يدخلون النار بدل الجنة لأنهم جمعوا وجوه الخسران‏.‏ وقيل وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده‏.‏ ‏{‏أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين‏}‏ مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير ب ‏{‏أَلاَ‏}‏، وتوسيط الفصل وتعريف الخسران ووصفه ب ‏{‏المبين‏}‏‏.‏

‏{‏لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار‏}‏ شرح لخسرانهم‏.‏ ‏{‏وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ أطباق من النار هي ظلل للآخرين‏.‏ ‏{‏ذلك يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ‏}‏ ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليتجنبوا ما يوقعهم فيه‏.‏ ‏{‏يَا عِبَادِ فاتقون‏}‏ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي‏.‏

‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت‏}‏ البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان‏.‏ ‏{‏أَن يَعْبُدُوهَا‏}‏ بدل اشتمال منه‏.‏ ‏{‏وَأَنَابُواْ إِلَى الله‏}‏ وأقبلوا إليه بشراشرهم عما سواه‏.‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى‏}‏ بالثواب على ألسنة الرسل، أو الملائكة عند حضور الموت‏.‏ ‏{‏فَبَشّرْ عِبَادِ‏}‏‏.‏

‏{‏الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ وضع فيه الظاهر موضع ضمير ‏{‏الذين اجتنبوا‏}‏ للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله‏}‏ لدينه‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار‏}‏ جملة شرطية معطوفة على محذوف دل عليه الكلام تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، فكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإِنكار والاستبعاد، ووضع ‏{‏مَن فِى النار‏}‏ موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه، وأن اجتهاد الرسل في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار، ويجوز أن يكون ‏{‏أَفَأَنتَ‏}‏ تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والإِشعار بالجزاء المحذوف‏.‏

‏{‏لَ 48‏;‏كِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ‏}‏ علالي بعضها فوق بعض‏.‏ ‏{‏مَّبْنِيَّةٌ‏}‏ بنيت بناء النازل على الأرض‏.‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ أي من تحت تلك الغرف‏.‏ ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ مصدر مؤكد لأن قوله ‏{‏لَهُمْ غُرَفٌ‏}‏ في معنى الوعد‏.‏ ‏{‏لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد‏}‏ ولأن الخلف نقص وهو على الله محال‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً‏}‏ هو المطر‏.‏ ‏{‏فَسَلَكَهُ‏}‏ فأدخله‏.‏ ‏{‏يَنَابِيعَ فِى الأرض‏}‏ هي عيون ومجاري كائنة فيها، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ‏}‏ أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَهِيجُ‏}‏ يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته‏.‏ ‏{‏فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً‏}‏ من يبسه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما‏}‏ فتاتاً‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى‏}‏ لتذاكيراً بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها‏.‏ ‏{‏لأُوْلِى الألباب‏}‏ إِذْ لاَ يَتَذكر به غيرهم‏.‏

‏{‏أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ حتى تمكن فيه بيسر عبر به عمن خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبوله غير متأبية عنه من حيث أن الصدر محل القلب المنبع للروح المتعلق للنفس القابلة للإِسلام‏.‏ ‏{‏فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ يعني المعرفة والاهتداء إلى الحق‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقيل فما علامة ذلك قال‏:‏ الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله» وخبر ‏{‏مِنْ‏}‏ محذوف دل عليه ‏{‏فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله‏}‏ من أجل ذكره وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من، لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبياً عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابله بقساوة القلب وأسنده إليه‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ يظهر للناظر بأدنى نظر، والآية نزلت في حمزة وعلي وأبي لهب وولده‏.‏

‏{‏الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث‏}‏ يعني القرآن، روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت‏.‏ وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه‏.‏ ‏{‏كتابا متشابها‏}‏ بدل من ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ أو حال منه، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإِعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة‏.‏ ‏{‏مَّثَانِيَ‏}‏ جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في «الحجر»، وصف به كتاباً باعتبار تفاصيله كقولك‏:‏ القرآن سور وآيات، والإِنسان‏:‏ عظام وعروق وأعصاب، أو جعل تمييزاً من ‏{‏متشابها‏}‏ كقولك‏:‏ رأيت رجلاً حسناً شمائله‏.‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ تشمئز خوفاً مما فيه من الوعيد، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعياً كتركيب أقمطر من القمط وهو الشد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله‏}‏ بالرحمة وعموم المغفرة، والإِطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه، والتعدية ب ‏{‏إلى‏}‏ لتضمين معنى السكون والاطمئنان، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء‏.‏ ‏{‏هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء‏}‏ هدايته‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ ومن يخذله‏.‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يخرجهم من الضلال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 31‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ‏}‏ يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه‏.‏ ‏{‏سُوءَ العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ كمن هو آمن منه، فحذف الخبر كما حذف في نظائره‏.‏

‏{‏وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ‏}‏ أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بالموجب لما يقال لهم وهو‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ أي وباله، والواو للحال وقد مقدرة‏.‏

‏{‏كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها‏.‏

‏{‏فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى‏}‏ الذل‏.‏ ‏{‏فِي الحياة الدنيا‏}‏ كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإِجلاء‏.‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخرة‏}‏ المعد لهم‏.‏ ‏{‏أَكْبَرُ‏}‏ لشدته ودوامه‏.‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يتعظون به‏.‏

‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك‏:‏ جاءني زيد رجلاً صالحاً، أو مدح له‏.‏ ‏{‏غَيْرَ ذِى عِوَجٍ‏}‏ لا اختلال فيه بوجه ما هو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني‏.‏ وقيل بالشك استشهاداً بقوله‏:‏

وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ *** مِنَ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ

وهو تخصيص له ببعض مدلوله‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ علة أخرى مرتبة على الأولى‏.‏

‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ للمشرك والموحد‏.‏ ‏{‏رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ متشاكسون وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ‏}‏ مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه، جمع يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل و‏{‏رَجُلاً‏}‏ بدل من مثل وفيه صلة ‏{‏شُرَكَاء‏}‏، والتشاكس والتشاخص الاختلاف‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون «سلاما» بفتحتين، وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها، أو حذف منها ذا ورجل سالم أي وهناك رجل سالم، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع‏.‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً‏}‏ صفة وحالاً ونصبه على التمييز ولذلك وحده، وقرئ «مثلين» للإشعار باختلاف النوع، أو لأن المراد على ‏{‏يَسْتَوِيَانِ‏}‏ في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل‏.‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإِطلاق‏.‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيشركون به غيره من فرط جهلهم‏.‏

‏{‏إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ‏}‏ فإن الكل بصدد الموت وفي عداد الموتى، وقرئ «مائت» و«مائتون» لأنه مما سيحدث‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ‏}‏ على تغليب المخاطب على الغيب‏.‏ ‏{‏يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد، ويعتذرون بالأباطيل مثل ‏{‏أَطَعْنَا سَادَتَنَا‏}‏ و‏{‏وَجَدْنَا ءابَاءنَا‏}‏ وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضاً فيما دار بينهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 40‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله‏}‏ بإضافة الولد والشريك إليه‏.‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بالصدق‏}‏ وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏إِذْ جَاءهُ‏}‏ من غير توقف وتفكر في أمره‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين‏}‏ وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم، واللام تحتمل العهد والجنس، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب‏.‏

‏{‏والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون‏}‏ وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وذلك يقتضي إضمار «الذى» وهو غير جائز‏.‏ وقرئ «وَصَدَّقَ بِهِ» بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف، أو صار صادقاً بسببه لأنه معجز يدل على صدقه «وَصَدَّقَ بِهِ» على البناء للمفعول‏.‏

‏{‏لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ في الجنة‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَاء المحسنين‏}‏ على إحسانهم‏.‏

‏{‏لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ‏}‏ خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك، أو للإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنهم مقصرون مذنبون وأن ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم، ويجوز أن يكون بمعنى السيء كقولهم‏:‏ الناقص والأشج أعدلا بني مروان، وقرئ«أسوأ» جمع سوء‏.‏ ‏{‏وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏ ويعطيهم ثوابهم‏.‏ ‏{‏بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ فتعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم فيها‏.‏

‏{‏أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإِثبات، والعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «عباده»، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم‏.‏ ‏{‏وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ‏}‏ يعني قريشاً فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها‏.‏ وقيل إنه بعث خالداً ليكسر العزى فقال له سادنها أُحَذِّرْكَهَا فإن لها شدة، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر‏.‏ ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يهديه إلى الرشاد‏.‏

‏{‏وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ‏}‏ إذ لا راد لفعله كما قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ‏}‏ غالب منيع‏.‏ ‏{‏ذِى انتقام‏}‏ ينتقم من أعدائه‏.‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ لوضوح البرهان على تفرده بالخلقية‏.‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ‏}‏ أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه‏.‏

‏{‏أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ‏}‏ بنفع‏.‏ ‏{‏هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ‏}‏ فيمسكنها عني، وقرأ أبو عمرو «كاشفات ضُرّهِ» «ممسكات رَحْمَتِهِ» بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته‏.‏ ‏{‏قُلْ حَسْبِىَ الله‏}‏ كافياً في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر‏.‏ روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك، وإنما قال ‏{‏كاشفات‏}‏ و‏{‏ممسكات‏}‏ على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيهاً على كمال ضعفها‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون‏}‏ لعلمهم بأن الكل منه تعالى‏.‏

‏{‏قُلْ يا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ على حالكم، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان، وقرئ «مكاناتكم»‏.‏ ‏{‏إِنّى عامل‏}‏ أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين فقال‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ فإن خزي أعدائه دليل غلبته، وقد أخزاهم الله يوم بدر‏.‏ ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ دائم وهو عذاب النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ‏}‏ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ متلبساً به‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ‏}‏ إذ نفع به نفسه‏.‏ ‏{‏وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ فإن وباله لا يتخطاها‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت‏.‏

‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا‏}‏ أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهراً وباطناً وذلك عند الموت، أو ظاهراً لا باطناً وهو في النوم‏.‏ ‏{‏فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت‏}‏ ولا يردها إلى البدن، وقرأ حمزة والكسائي قُضِيَ بِضَم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع‏.‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الأخرى‏}‏ أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة‏.‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال‏.‏ وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والحياة، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم قريب مما ذكرناه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ من التوفي والإِمساك والإِرسال‏.‏ ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته‏.‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حيناً بعد حين إلى توفي آجالها‏.‏

‏{‏أَمِ اتخذوا‏}‏ بل اتخذت قريش‏.‏ ‏{‏مِن دُونِ الله شُفَعَاءَ‏}‏ تشفع لهم عند الله‏.‏ ‏{‏قُلْ أَوَ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم‏.‏

‏{‏قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً‏}‏ لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه، ولا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال‏:‏ ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ‏.‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ‏}‏ دون آلهتهم‏.‏ ‏{‏اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة‏}‏ انقبضت ونفرت‏.‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ يعني الأوثان‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه، والعامل في ‏{‏إِذَا ذُكِرَ‏}‏ العامل في إذا المفاجأة‏.‏

‏{‏قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة‏}‏ التجئ إلى الله بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وضجرت من عنادهم وشدة شكيمتهم، فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها‏.‏

‏{‏أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص‏.‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏ زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ في الوعد‏.‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ وأحاط بهم جزاؤه‏.‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا‏}‏ إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، والعطف على قوله ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ‏}‏ بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا‏}‏ أعطيناه إياه تفضلاً فإن التخويل مختص به‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ‏}‏ مني بوجوه كسبه، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه، أو من الله بي واستحقاقي، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها‏.‏ ‏{‏بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ‏}‏ امتحان له أيشكر أم يكفر، وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال ‏{‏نعمة‏}‏، وقرئ بالتذكير‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك، وهو دليل على أن الإِنسان للجنس‏.‏

‏{‏قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ الهاء لقوله ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ‏}‏ لأنها كلمة أو جملة، وقرئ بالتذكير ‏{‏والذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ قارون وقومه فإنه قال ورضي به قومه ‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من متاع الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزاً إلى أن جميع أعمالهم كذلك‏.‏ ‏{‏والذين ظَلَمُواْ‏}‏ بالعتو‏.‏ ‏{‏مِنْ هَؤُلاَءِ‏}‏ المشركين و‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان أو للتبعيض‏.‏ ‏{‏سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ كما أصاب أولئك، وقد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم‏.‏ ‏{‏وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ بفائتين‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‏}‏ حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بأن الحوادث كلها من الله بوسط أو غيره‏.‏

‏{‏قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ أفرطوا في الجناية عليها بالإِسراف في المعاصي، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن‏.‏ ‏{‏لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله‏}‏ لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً‏}‏ عفواً ولو بَعْدَ بُعْدٍ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ الآية، والتعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في ‏{‏عِبَادِى‏}‏ من الدلالة على الذلة، والإِختصاص المقتضيين للترحم، وتخصيص ضرر الإِسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، ووضع اسم ‏{‏الله‏}‏ موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإِطلاق والتأكيد بالجميع‏.‏ وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال‏:‏ ألا ومن أشرك ثلاث مرات» وما روي أن أهل مكة قالوا‏:‏ يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت‏.‏ وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله‏:‏

‏{‏وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ بأنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإِخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب‏.‏

‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ‏}‏ القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه، والعزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة‏.‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ بمجيئه فتتداركوا‏.‏

‏{‏أَن تَقُولَ نَفْسٌ‏}‏ كراهة أن تقول وتنكير ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى‏:‏

وَرُبَّ بَقِيعَ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّه *** أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضبا

‏{‏يَا حسرتى‏}‏ وقرئ بالياء على الأصل‏.‏ ‏{‏على مَا فَرَّطَتُ‏}‏ بما قصرت‏.‏ ‏{‏فِى جَنبِ الله‏}‏ في جانبه أي في حقه وهو طاعته‏.‏ قال سابق البربري‏:‏

أَمَا تَتَّقِينَ الله فِي جَنْبٍ وَامِق *** لَهُ كبدٌ حَرّى عَلَيْكَ تَقَطَّع

وهو كناية فيها مبالغة كقوله‏:‏

إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءَةَ وَالنَّدَى *** فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحَشْرَجِ

وقيل ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصَّاحِب بالجنب‏}‏ وقرئ «في ذكر الله»‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين‏}‏ المستهزئين بأهله ومحل ‏{‏إِن كُنتَ‏}‏ نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 65‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى‏}‏ بالإرشاد إلى الحق‏.‏ ‏{‏لَكُنتُ مِنَ المتقين‏}‏ الشرك والمعاصي‏.‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين‏}‏ في العقيدة والعمل، وأو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته‏.‏

‏{‏بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ رد من الله عليه لما تضمنه قوله ‏{‏لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى‏}‏ من معنى النفي وفصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله في فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب على المعنى، وقرئ بالتأنيث للنفس‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله‏}‏ بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد‏.‏ ‏{‏وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو‏.‏ ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى‏}‏ مقام‏.‏ ‏{‏لّلْمُتَكَبّرِينَ‏}‏ عن الإِيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك‏.‏

‏{‏وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا‏}‏ وقرئ وَيُنَجّي‏.‏ ‏{‏بِمَفَازَتِهِمْ‏}‏ بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقاً لهم بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ وهو حال أو استئناف لبيان المفازة‏.‏

‏{‏الله خالق كُلّ شَئ‏}‏ من خير وشر وإيمان وكفر‏.‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ وَكِيل‏}‏ يتولى التصرف‏.‏

‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض‏}‏ لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير‏.‏ وعن عثمان رضي الله عنه‏:‏ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» والمعنى على هذا إن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ بئايات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ متصل بقوله ‏{‏وَيُنَجّى الله الذين اتقوا‏}‏ وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، وتغيير النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب‏.‏

‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون‏}‏ أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد، و‏{‏تَأْمُرُونّى‏}‏ اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه ‏{‏تَأْمُرُونّى أَنْ أَعْبُدَ‏}‏ لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف إن ورفع كقوله‏:‏

أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضِر الوَغَى *** ويؤيده قراءة ‏{‏أَعْبُدُ‏}‏ بالنصب، وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل ونافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيراً‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ‏}‏ أي من الرسل‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ كلام على سبيل الفرض والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإِشعار على حكم الأمة، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب، وإطلاق الإِحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح، وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ الله فاعبد‏}‏ رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك‏.‏ ‏{‏وَكُنْ مّنَ الشاكرين‏}‏ إنعامه عليك وفيه إشارة الى موجب الاختصاص‏.‏

‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به، وقرئ بالتشديد‏.‏ ‏{‏والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ تنبيه على عظمته وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإِضافة إلى قدرته، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازاً كقولهم‏:‏ شابت لمة الليل، والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة‏.‏ وقرئ بالنصب على الظرف تشبيهاً للمؤقت بالمبهم، وتأكيد ‏{‏الأرض‏}‏ بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة‏.‏ وقرئ ‏{‏مطويات‏}‏ على أنها حال و‏{‏السموات‏}‏ معطوفة على ‏{‏الأرض‏}‏ منظومة في حكمها‏.‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ما أبعد وأعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم، أو ما يضاف إليه من الشركاء‏.‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ يعني المرة الأولى‏.‏ ‏{‏فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض‏}‏ خر ميتاً أو مغشياً عليه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَاءَ الله‏}‏ قيل جبريل ومكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد‏.‏ وقيل حملة العرش‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى‏}‏ نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأُولى ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع، وأخرى تحتمل النصب والرفع‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ‏}‏ قائمون من قبورهم أو متوقفون، وقرئ بالنصب على أن الخبر‏.‏ ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ وهو حال من ضميره والمعنى‏:‏ يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم‏.‏

‏{‏وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا‏}‏ بما أقام فيها من العدل، سماه «نور» لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ الظلم ظلمات يوم القيامة ‏"‏ ولذلك أضاف اسمه إلى ‏{‏الأرض‏}‏ أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه الى نفسه‏.‏ ‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال، واكتفى باسم الجنس عن الجمع‏.‏ وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف ‏{‏وَجِئ بالنبيين والشهداء‏}‏ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين، وقيل المستشهدون‏.‏ ‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين العباد‏.‏ ‏{‏بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 75‏]‏

‏{‏وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ‏}‏ جزاءه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ فلا يفوته شيء من أفعالهم، ثم فصل التوفية فقال‏:‏

‏{‏وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً‏}‏ أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة، جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها‏}‏ ليدخلوها و‏{‏حتى‏}‏ وهي التي تحكي بعدها الجملة، وقرأ الكوفين «فُتِحَتْ» بتخفيف التاء‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ تقريعاً وتوبيخاً‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ‏}‏ من جنسكم‏.‏ ‏{‏يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار، وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين‏}‏ كلمة الله بالعذاب علينا وهو الحكم عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة، وقيل هو قوله ‏{‏لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏{‏قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا‏}‏ أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم‏.‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى‏}‏ مكان‏.‏ ‏{‏المتكبرين‏}‏ اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ إِن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة‏.‏ وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار ‏"‏ ‏{‏وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة‏}‏ إِسراعاً بهم إلى دار الكرامة، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين‏.‏ ‏{‏زُمَراً‏}‏ على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها‏}‏ حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين، وقرأ الكوفيون «فُتِحَتْ» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ لا يعتريكم بعد مكروه‏.‏ ‏{‏طِبْتُمْ‏}‏ طهرتم من دنس المعاصي‏.‏ ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ مقدرين الخلود فيها، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ بالبعث والثواب‏.‏ ‏{‏وَأَوْرَثَنَا الأرض‏}‏ يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه‏.‏

‏{‏نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاءُ‏}‏ أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها‏.‏ ‏{‏فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ الجنة‏.‏

‏{‏وَتَرَى الملائكة حَافّينَ‏}‏ محدقين‏.‏ ‏{‏مِنْ حَوْلِ العرش‏}‏ أي حوله و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة أو لابتداء الحفوف‏.‏ ‏{‏يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ‏}‏ ملتبسين بحمده‏.‏ والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق‏.‏ ‏{‏وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق‏}‏ أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ أي على ما قضي بيننا بالحق‏.‏ والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين» عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر» والله أعلم‏.‏

سورة غافر

مكية وآيها خمس وثمانون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏حَم‏}‏ أماله ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر صريحاً، ونافع برواية ورش وأبو عمرو بين بين، وقرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين، أو النصب بإضمار اقرأ ومنع صرفه للتعريف والتأنيث، أو لأنها على زنة أعجمي كقابيل وهابيل‏.‏

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم‏}‏ لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإِعجاز والحكم الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 9‏]‏

‏{‏غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِى الطول‏}‏ صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه، والإِضافة فيها حقيقية على أنه لم يرد بها زمان مخصوص، وأريد ب ‏{‏شَدِيدُ العقاب‏}‏ مشددة أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس، أو إبدال وجعله وحده بدلاً مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإِفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن ‏"‏ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ‏"‏ والتوب مصدر كالتوبة‏.‏ وقيل جمعاً والطول الفضل بترك العقاب المستحق، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ فيجب الإِقبال الكلي على عبادته‏.‏ ‏{‏إِلَيْهِ المصير‏}‏ فيجازي المطيع والعاصي‏.‏

‏{‏مَا يجادل فِى ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ لما حقق أمر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن وإدحاض الحق لقوله‏:‏ ‏{‏وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق‏}‏ وأما الجدال فيه لحل عقده واستنباط حقائقه وقطع تشبث أهل الزيغ به وقطع مطاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ إن جدالاً في القرآن كفر ‏"‏ بالتنكير مع أنه ليس جدالاً فيه على الحقيقة‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد‏}‏ فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ والذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح كعاد وثمود‏.‏ ‏{‏وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ‏}‏ من هؤلاء‏.‏ ‏{‏بِرَسُولِهِمْ‏}‏ وقرئ «برسولها»‏.‏ ‏{‏لِيَأْخُذُوهُ‏}‏ ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل من الأخذ بمعنى الأسر‏.‏ ‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ بما لا حقيقة له‏.‏ ‏{‏لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق‏}‏ ليزيلوه به‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ‏}‏ بالإِهلاك جزاء لهم‏.‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره‏.‏ وهو تقرير فيه تعجيب‏.‏

‏{‏وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ وعيده أو قضاؤه بالعذاب‏.‏ ‏{‏عَلَى الذين كَفَرُواْ‏}‏ بكفرهم‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ أصحاب النار‏}‏ بدل من كلمة ‏{‏رَبَّكَ‏}‏ بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى‏.‏

‏{‏الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ‏}‏ الكروبيون أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجوداً وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له، أو كناية عن قربهم من ذي العرش ومكانتهم عنده وتوسطهم في نفاذ أمره‏.‏ ‏{‏يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ‏}‏ يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإِكرام، وجعل التسبيح أصلاً والحمد حالاً لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح أصلاً‏.‏

‏{‏وَيُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ أخبر عنهم بالإِيمان إظهاراً لفضله وتعظيماً لأهله ومساق الآية لذلك كما صرح به بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ وإشعاراً بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفته سواء رداً على المجسمة واستغفارهم شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة، وفيه تنبيه على أن المشاركة في الإِيمان توجب النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ‏}‏ ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ أي يقولون ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ وهو بيان ل ‏{‏يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ أو حال‏.‏ ‏{‏وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً‏}‏ أي وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم والمبالغة في عمومها، وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ها هنا‏.‏ ‏{‏فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ‏}‏ للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق‏.‏ ‏{‏وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم‏}‏ واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد والدلالة على شدة العذاب‏.‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ‏}‏ وعدتهم إياها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ‏}‏ عطف على هم الأول أي أدخلهم ومعهم هؤلاء ليتم سرورهم، أو الثاني لبيان عموم الوعد، وقرئ «جنة عدن» و‏{‏صَلُحَ‏}‏ بالضم و«ذريتهم» بالتوحيد‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ العزيز‏}‏ الذي لا يمتنع عليه مقدور‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد‏.‏ ‏{‏وَقِهِمُ السيئات‏}‏ العقوبات أو جزاء السيئات، وهو تعميم بعد تخصيص، أو تخصيص بمن ‏{‏صلح‏}‏ أو المعاصي في الدنيا لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ‏}‏ أي ومن تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبب‏.‏ ‏{‏وذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏ يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ‏}‏ يوم القيامة فيقال لهم‏:‏ ‏{‏لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة بالسوء‏.‏ ‏{‏إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لا له لأنه أخبر عنه، ولا للثاني لأن مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة إلا أن يؤول بنحو‏:‏ بالصَّيْفِ ضيّعْتِ اللَّبَن‏.‏ أو تعليل للحكم وزمان المقتين واحد‏.‏

‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين‏}‏ إماتتين بأن خلقتنا أمواتاً ثم صيرتنا أمواتاً عند انقضاء آجالنا، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير والتكبير، ولذلك قيل سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل، وإن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير وصرف له عن الآخر‏.‏ ‏{‏وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين‏}‏ الإحياءة الأولى وإحياءة البعث‏.‏ وقيل الإِماتة الأولى عند انخرام الأجل والثانية في القبر بعد الإِحياء للسؤال والإِحياءان ما في القبر والبعث، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ولذلك تسبب بقوله‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بِذُنُوبِنَا‏}‏ فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث‏.‏ ‏{‏فَهَلْ إلى خُرُوجٍ‏}‏ نوع خروج من النار‏.‏ ‏{‏مّن سَبِيلٍ‏}‏ طريق فنسلكه وذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللاً وتحيراً ولذلك أجيبوا بقوله‏:‏

‏{‏ذلكم‏}‏ الذي أنتم فيه‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُ‏}‏ بسبب أنه‏.‏ ‏{‏إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ‏}‏ متحداً أو توحد وحده فحذف الفعل وأقيم مقامه في الحالية‏.‏ ‏{‏كَفَرْتُمْ‏}‏ بالتوحيد‏.‏ ‏{‏وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ‏}‏ بالإِشراك‏.‏ ‏{‏فالحكم للَّهِ‏}‏ المستحق للعبادة حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الدائم‏.‏ ‏{‏العلى‏}‏ عن أن يشرك به ويسوى بغيره‏.‏ ‏{‏الكبير‏}‏ حيث حكم على من أشرك وسوى به بعض مخلوقاته في استحقاق العبادة بالعذاب السرمد‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ الدالة على التوحيد وسائر ما يجب أن يعلم تكميلاً لنفوسكم‏.‏ ‏{‏وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً‏}‏ أسباب رزق كالمطر مراعاة لمعاشكم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَتَذَكَّرُ‏}‏ بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن يُنِيبُ‏}‏ يرجع عن الإِنكار بالإِقبال عليها والتفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه‏.‏

‏{‏فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ من الشرك‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ إخلاصكم وشق عليهم‏.‏

‏{‏رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش‏}‏ خبران آخران للدلالة على علو صمديته من حيث المعقول والمحسوس الدال على تفرده في الألوهية، فإن من ارتفعت درجات كماله بحيث لا يظهر دونها كمال وكان العرش الذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته لا يصح أن يشرك به، وقيل الدرجات مراتب المخلوقات أو مصاعد الملائكة إلى العرش أو السموات أو درجات الثواب‏.‏

وقرئ «رَفِيعَ» بالنصب على المدح‏.‏ ‏{‏يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضاً مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد والروح الوحي ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه والآمر هو الملك المبلغ‏.‏ ‏{‏على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ يختاره للنبوة، وفيه دليل على أنها عطائية‏.‏ ‏{‏لّيُنذِرَ‏}‏ غاية الإلقاء والمستكن فيه لله، أو لمن أو للروح واللام مع القرب تؤيد الثاني‏.‏ ‏{‏يَوْمَ التلاق‏}‏ يوم القيامة، فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض أو المعبودون والعباد أو الأعمال والعمال‏.‏

‏{‏يَوْمَ هُم بارزون‏}‏ خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان، أو أعمالهم وسرائرهم‏.‏ ‏{‏لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَئ‏}‏ من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم، وهو تقرير لقوله ‏{‏هُم بارزون‏}‏ وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار‏}‏ حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط، وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائماً‏.‏

‏{‏اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ كأنه نتيجة لما سبق، وتحقيقه أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وأملها لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذاتها وألمها‏.‏ ‏{‏لاَ ظُلْمَ اليوم‏}‏ ينقص الثواب وزيادة العقاب‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ إذ لا يشغله شأن عن شأن فيصل إليهم ما يستحقونه سريعاً‏.‏

‏{‏وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزفة‏}‏ أي القيامة سميت بها لأزوفها أي قربها، أو الخطة الآزفة وهي مشارفتهم النار وقيل الموت‏.‏ ‏{‏إِذِ القلوب لَدَى الحناجر‏}‏ فإنها ترتفع عن أماكنها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا‏.‏ ‏{‏كاظمين‏}‏ على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى لأنه على الإِضافة، أو منها أو من ضميرها في لدى وجمعه كذلك لأن الكظم من أفعال العقلاء كقوله‏:‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏ أو من مفعول ‏{‏أَنذَرَهُمْ‏}‏ على أنه حال مقدرة‏.‏ ‏{‏مَا لِلظَّالِمينَ مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ قريب مشفق‏.‏ ‏{‏وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ‏}‏ ولا شفيع مشفع، والضمائر إن كانت للكفار وهو الظاهر كان وضع الظالمين موضع ضميرهم للدلالة على اختصاص ذلك بهم وأنه لظلمهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين‏}‏ النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه، أو خيانة الأعين‏.‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِى الصدور‏}‏ من الضمائر والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلق العلم والجزاء ‏{‏والله يَقْضِى بالحق‏}‏ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق قلا يقضي بشيء إلا وهو حقه ‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَئ‏}‏ تهكم بهم لأن الجماد لا يقال فيه إنه يقضي أو لا يقضي‏.‏ وقرأ نافع وهشام بالتاء على الالتفات أو إضمار قل ‏{‏إِنَّ الله هُوَ السميع البصير‏}‏ تقرير لعلمه ب ‏{‏خَائِنَةَ الأعين‏}‏ وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، وتعريض بحال ما ‏{‏يَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود‏.‏ ‏{‏كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ قدرة وتمكناً، وإنما جيء بالفصل وحقه أن يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه‏.‏ وقرأ ابن عامر «أشد منكم» بالكاف‏.‏ ‏{‏وَءَاثَاراً فِى الأَرْضِ‏}‏ مثل القلاع والمدائن الحصينة‏.‏ وقيل المعنى وأكثر آثاراً كقوله‏:‏ متقلداً سيفاً ورمحاً ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ‏}‏ يمنع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الأخذ‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات أو الأحكام الواضحة‏.‏ ‏{‏فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ‏}‏ متمكن مما يريده غاية التمكن‏.‏ ‏{‏شَدِيدُ العقاب‏}‏ لا يؤبه بعقاب دون عقابه‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ يعني المعجزات‏.‏ ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ وحجة قاهرة ظاهرة، والعطف لتغاير الوصفين أو لإِفراد بعض المعجزات كالعصا تفخيماً لشأنه‏.‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَارُونَ فَقَالُواْ ساحر كَذَّابٌ‏}‏ يعنون موسى عليه الصلاة والسلام، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبلهم بطشاً وأقربهم زماناً‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاءَ الذين ءَامَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَاءَهُمْ‏}‏ أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أولاً كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه السلام‏.‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ في ضياع، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة‏.‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ موسى‏}‏ كانوا يكفونه عن قتله ويقولون إنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر، ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة وتعلله بذلك مع كونه سفاكاً في أهون شيء دليل على أنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله، أو ظن أنه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله‏.‏ ‏{‏وَلْيَدْعُ رَبَّهُ‏}‏ فإنه تجلد وعدم مبالاة بدعائه‏.‏ ‏{‏إِنّي أَخَافُ‏}‏ إن لم أقتله‏.‏ ‏{‏أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ‏}‏ أن يغير ما أنتم عليه من عبادته وعبادة الأصنام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ‏}‏ ‏{‏أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد‏}‏ ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر أن يبطل دينكم بالكلية‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالواو على معنى الجمع، وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع الفساد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 46‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ أي لقومه لما سمع بكلامه‏.‏ ‏{‏إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب‏}‏ صدر الكلام بأن تأكيداً وإشعاراً على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية، وإضافته إليه وإليهم حثاً لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإِجابة، ولم يسم فرعون وذكر وصفاً يعمه وغيره لتعميم الإِستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏عُذْتُ‏}‏ فيه وفي سورة «الدخان» بالإِدغام وعن نافع مثله‏.‏

‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ من أقاربه‏.‏ وقيل ‏{‏مِنْ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏يَكْتُمُ إيمانه‏}‏ والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم‏.‏ ‏{‏أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً‏}‏ أتقصدون قتله‏.‏ ‏{‏أَن يَقُولَ‏}‏ لأن يقول، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره‏.‏ ‏{‏رَبّىَ الله‏}‏ وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد‏.‏ ‏{‏وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات‏}‏ المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات‏.‏ ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجاً عليهم واستدراجاً لهم إلى الاعتراف به، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ‏}‏ لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله‏.‏ ‏{‏وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ‏}‏ فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإِنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذباً أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم وتفسير ال ‏{‏بَعْضُ‏}‏ بالكل كقول لبيد‏:‏

تَرَاكَ أَمْكنة إِذَا لَمْ أَرْضَهَا *** أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حمامُهَا

مردود لأنه أراد بال ‏{‏بَعْضُ‏}‏ نفسه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ‏}‏ احتجاج ثالث ذو وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن من خذله الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله‏.‏ ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم، وعرض به لفرعون بأنه ‏{‏مُسْرِفٌ كَذَّابٌ‏}‏ لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة‏.‏

‏{‏ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين‏}‏ غالبين عالين‏.‏ ‏{‏فِى الأرض‏}‏ أرض مصر‏.‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءَنَا‏}‏ أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، وإنما أدرج نفسه في الضميرين لأنه كان منهم في القرابة وليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم‏.‏ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ‏}‏ ما أشير عليكم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا أرى‏}‏ وأستصوبه من قتله وما أعلمكم إلا ما علمت من الصواب وقلبي ولساني متواطئان عليه‏.‏

‏{‏وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ طريق الصواب، وقرئ بالتشديد على أنه فعال للمبالغة من رشد كعلام، أو من رشد كعباد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو بالنسبة إلى الرشد كعواج وبتات‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ في تكذيبه والتعريض له‏.‏ ‏{‏مّثْلَ يَوْمِ الأحزاب‏}‏ مثل أيام الأمم الماضية يعني وقائعهم، وجمع ‏{‏الأحزاب‏}‏ مع التفسير أغنى عن جمع ‏{‏اليوم‏}‏‏.‏

‏{‏مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ مثل جزاء ما كانوا عليه دائباً من الكفر وإيذاء الرسل‏.‏ ‏{‏والذين مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ كقوم لوط‏.‏ ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ‏}‏ فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام، وهو أبلغ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ من حيث أن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم‏.‏

‏{‏وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد‏}‏ يوم القيامة ينادي فيه بعضهم بعضاً للاستغاثة، أو يتصايحون بالويل والثبور، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار كما حكي في «الأعراف»‏.‏ وقرئ بالتشديد وهو أن يند بعضهم من بعض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ‏}‏ عن الموقف‏.‏ ‏{‏مُّدْبِرِينَ‏}‏ منصرفين عنه إلى النار‏.‏ وقيل فارين عنها‏.‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏ يعصمكم من عذابه‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ‏}‏ يوسف بن يعقوب على أن فرعونه فرعون موسى، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل موسى‏.‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ بالمعجزات‏.‏ ‏{‏فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مِّمَّا جَاءَكُمْ بِهِ‏}‏ من الدين‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا هَلَكَ‏}‏ مات‏.‏ ‏{‏قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً‏}‏ ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده، أو جزماً بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشك في رسالته، وقرئ «ألن يبعث الله» على أن بعضهم يقرر بعضاً بنفي البعث‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الضلال‏.‏ ‏{‏يُضِلُّ الله‏}‏ في العصيان‏.‏ ‏{‏مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ‏}‏ شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد‏.‏

‏{‏والذين يجادلون فِى ءايات الله‏}‏ بدل من الموصول الأول لأنه بمعنى الجمع‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ سلطان أتاهم‏}‏ بغير حجة بل إما بتقليد أو بشبهة داحضة‏.‏ ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ فيه ضمير من وإفراده للفظ، ويجوز أن يكون «الذين آمنوا» مبتدأ وخبره ‏{‏كَبُرَ‏}‏ على حذف مضاف أي‏:‏ وجدال الذين يجادلون كبر مقتاً أو بغير سلطان وفاعل ‏{‏كَبُرَ‏}‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي كبر مقتاً مثل ذلك الجدال فيكون قوله‏:‏ ‏{‏يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ استئنافاً للدلالة على الموجب لجدالهم‏.‏

وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان قلب بالتنوين على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم‏:‏ رأت عيني وسمعت أذني، أو على حذف مضاف أي على كل ذي قلب متكبر‏.‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياهامان ابن لِى صَرْحاً‏}‏ بناء مكشوفاً عالياً من صرح الشيء إذا ظهر‏.‏ ‏{‏لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب‏}‏ الطرق‏.‏

‏{‏أسباب السموات‏}‏ بيان لها أو في إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها‏.‏ ‏{‏فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى‏}‏ عطف على ‏{‏أَبْلُغُ‏}‏‏.‏ وقرأ حفص بالنصب على جواب الترجي ولعله أراد أن يبني له رصداً في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه، أو إن يرى فساد قول موسى بأن أخباره من إله السماء يتوقف على إطلاعه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وذلك لجهله بالله وكيفية استنبائه‏.‏ ‏{‏وَإِنّى لأَظُنُّهُ كاذبا‏}‏ في دعوى الرسالة‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل التزيين، ‏{‏زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل‏}‏ سبيل الرشاد، والفاعل على الحقيقة هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرئ زين بالفتح وبالتوسط الشيطان‏.‏ وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ على أن فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده‏:‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ‏}‏ أي خسار‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذى ءَامَنَ‏}‏ يعني مؤمن آل فرعون‏.‏ وقيل موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ‏}‏ بالدلالة‏.‏ ‏{‏سَبِيلَ الرشاد‏}‏ سبيلاً يصل سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي‏.‏

‏{‏ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ‏}‏ تمتع يسير لسرعة زوالها‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الأخرة هِىَ دَارُ القرار‏}‏ لخلودها‏.‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ عدلاً من الله، وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بمثلها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافاً مضاعفة فضلاً منه ورحمة، ولعل تقسيم العمال وجعل الجزاء جملة إسمية مصدرة باسم الإِشارة، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة، وجعل العمل عمدة والإِيمان حالاً للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل وأن ثوابه أعلى من ذلك‏.‏

‏{‏وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار‏}‏ كرر ندائهم إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة واهتماماً بالمنادى له، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه، وعطفه على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله ولذلك لم يعطف على الأول، فإن ما بعده أيضاً تفسير لما أجمل فيه تصريحاً أو تعريضاً أو على الأول‏.‏

‏{‏تَدْعُونَنِى لأَكْفُرَ بالله‏}‏ بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام‏.‏

‏{‏وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ‏}‏ بربوبيته‏.‏ ‏{‏عِلْمٌ‏}‏ والمراد نفي المعلوم والإِشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان فاعتقادها لا يصح إلا عن إيقان‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار‏}‏ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإِرادة، والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران‏.‏

‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ لا رد لما دعوه إليه، و‏{‏جَرَمَ‏}‏ فعل بمعنى حق وفاعله‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الأخرة‏}‏ أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلاً لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها‏.‏ وقيل ‏{‏جَرَمَ‏}‏ بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، وقيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما إن بدا من لا بد فعل من التبديد وهو التفريق، والمعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقاً، ويؤيده قولهم لا جرم إنه لغة فيه كالرشد والرشد‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله‏}‏ بالموت‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ المسرفين‏}‏ في الضلالة والطغيان كالإِشراك وسفك الدماء‏.‏ ‏{‏هُمْ أصحاب النار‏}‏ ملازموها‏.‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ‏}‏ وقرئ ‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ‏}‏ أي فسيذكر بعضكم بعضاً عند معاينة العذاب‏.‏ ‏{‏مَا أَقُولُ لَكُمْ‏}‏ من النصيحة‏.‏ ‏{‏وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى الله‏}‏ ليعصمني من كل سوء‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد‏}‏ فيحرسهم وكأنه جواب توعدهم المفهوم من قوله‏:‏

‏{‏فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ‏}‏ شدائد مكرهم‏.‏ وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ بفرعون وقومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك‏.‏ وقيل بطلبة المؤمن من قومه فإنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلي والوحوش حوله صفوفاً فرجعوا رعباً فقتلهم‏.‏ ‏{‏سُوءُ العذاب‏}‏ الغرق أو القتل أو النار‏.‏

‏{‏النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً‏}‏ جملة مستأنفة أو ‏{‏النار‏}‏ خبر محذوف و‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ استئناف للبيان، أو بدل و‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ حال منها، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره ‏{‏يُعْرَضُونَ‏}‏ مثل يصلون، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم‏:‏ عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشياً إلى يوم القيامة، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأييد، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم‏:‏ ‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ‏}‏ يا آل فرعون‏.‏ ‏{‏أَشَدَّ العذاب‏}‏ عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه، أو أشد عذاب جهنم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص ‏{‏أَدْخِلُواْ‏}‏ على أمر الملائكة بإدخالهم النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 58‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار‏}‏ واذكر وقت تخاصمهم فيها ويحتمل العطف على غدوا‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ تفصيل له‏.‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا‏}‏ تباعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع بمعنى أتباع على الإِضمار أو التجوز‏.‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار‏}‏ بالدفع أو الحمل، و‏{‏نَصِيباً‏}‏ مفعول به لما دل عليه ‏{‏مُّغْنُونَ‏}‏ أوله بالتضمين أو مصدر كشيئاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا‏}‏ فيكون من صلة ل ‏{‏مُّغْنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا، وقرئ «كلا» على التأكيد لأنه بمعنى كلنا وتنوينه عوض عن المضاف إليه، ولا يجوز جعله حالاً من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد‏}‏ بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، و‏{‏لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ‏}‏ ‏{‏وَقَالَ الذين فِى النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي لخزنتها، ووضع ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها، إذ يحتمل أن تكون ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ أبعد دركاتها من قولهم‏:‏ بئر جهنم بعيدة القعر‏.‏ ‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً‏}‏ قدر يوم‏.‏ ‏{‏مّنَ العذاب‏}‏ شيئاً من العذاب، ويجوز أن يكون المفعول «يوم» بحذف المضاف و‏{‏مّنَ العذاب‏}‏ بيانه‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات‏}‏ أرادوا به إلزامهم للحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإِجابة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بلى قَالُواْ فادعوا‏}‏ فإنا لا نجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، وفيه إقناط لهم عن الإِجابة‏.‏ ‏{‏وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال‏}‏ ضياع لا يجاب، وفيه اقناط لهم عن الإجابة‏.‏

‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ‏}‏ بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة‏.‏ ‏{‏فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد‏}‏ أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحياناً إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر، و‏{‏الأشهاد‏}‏ جمع شاهد كصاحب وأصحاب، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة، أو لأنه لم يؤذن لهم فيعتذروا‏.‏ وقرأ غير الكوفيين ونافع بالتاء‏.‏ ‏{‏وَلَهُمُ اللعنة‏}‏ البعد عن الرحمة‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ سُوءُ الدار‏}‏ جهنم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى‏}‏ ما يهتدي به في الدين من المعجزات والصحف والشرائع‏.‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب‏}‏ وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة‏.‏

‏{‏هُدًى وذكرى‏}‏ هداية وتذكرة أو هادياً ومذكراً‏.‏

‏{‏لأُوْلِى الألباب‏}‏ لذوي العقول السليمة‏.‏

‏{‏فاصبر‏}‏ على أذى المشركين‏.‏ ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ بالنصر لا يخلفه، واستشهد بحال موسى وفرعون‏.‏ ‏{‏واستغفر لِذَنبِكَ‏}‏ وأقبل على أمر دينك وتدارك فرطاتك بترك الأولى والاهتمام بأمر العدا بالاستغفار، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر‏.‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار‏}‏ ودم على التسبيح والتحميد لربك‏.‏ وقيل صلِّ لهذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وركعتين عشياً‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم‏}‏ عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في مشركي مكة واليهود حين قالوا‏:‏ لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار‏.‏ ‏{‏إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ‏}‏ إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم، أو إرادة الرياسة أو إن النبوة والملك لا يكونان إلا لهم‏.‏ ‏{‏مَّا هُم ببالغيه‏}‏ ببالغي دفع الآيات أو المراد‏.‏ ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ فالتجئ إليه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع البصير‏}‏ لأقوالكم وأفعالكم‏.‏

‏{‏لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس‏}‏ فمن قدر على خلقها مع عظمها أولاً من غير أصل قدر على خلق الإِنسان ثانياً من أصل، وهو بيان لا شكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم‏.‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ الغافل والمستبصر‏.‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسئ‏}‏ والمحسن والمسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، وهي فيما بعد البعث وزيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة، والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على ‏{‏الأعمى والبصير‏}‏ لتغاير الوصفين في المقصود، أو الدلالة بالصراحة والتمثيل‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي تذكراً ما قليلاً يتذكرون، والضمير للناس أو الكفار‏.‏ وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة‏.‏